انشغل الرياضيون منذ قديم الزمان بالأعداد وطوروا مفهومها ووسعوا مجموعاتها فانتقلوا، كما هو معلوم، من الأعداد الطبيعية إلى الأعداد الصحيحة ثم إلى الأعداد الناطقة تلتها مجموعة الأعداد الحقيقية ثم مجموعة الأعداد المركبة (العقدية). وقد يعتقد البعض أن دراسة المجموعة الأولى (مجموعة الأعداد الطبيعية) انتهت منذ عهد بعيد. أما المختصون فلهم في هذا الموضوع رأي آخر ... هناك تساؤلات تبدو لعامة الناس بسيطة لكن الإجابة عنها لدى المختصين عسيرة.
إن ما نجهله بخصوص هذه العداد يفوق ما نعلمه عنها. ولا زال المختصون في نظرية الأعداد يكدون لمعرفة المزيد من عجائب هذه الكائنات. والواقع أن معالجة هذه الأعداد التي يعرفها الجميع، رياضيون وغير رياضيين، تتعمق يوما بعد يوم وتستخدم أحدث الأجهزة للغوص في متاهاتها. والأعداد الطبيعية ليست الوحيدة التي شغلت بال الرياضيين، فهناك على سبيل المثال العدد الذي لم تنته الحسابات بشأنه إلى اليوم. نريد في هذا المقام التعرف عن انشغالات الباحثين في هذا العالم الغريب الذي يزداد غرابة يوما بعد يوم.
عندما يتعلق الأمر بحساب محيط الدائرة أو مساحتها فإنه لا مناص من استعمال عدد يرمز له الرياضيون بالرمز . ولماذا اختاروا هذا الرمز؟ لأنه الحرف الأول من الكلمة اليونانية التي تدل على المحيط. ويبدو أن أول من استعمل هـذا الرمز هـو الرياضي الإنكليزي وليم جونس(Jones (1675-1749 عام 1706، لكن تعميم استعماله لم يحدث إلا ابتداء من عام 1737 عندما تبناه الرياضي السويسري أولر. بينما يذهب آخرون إلى القول بأن أول من استخدم الرمز ( هو الهولندي رومانوس( Romanus (1561-1615.
أين نجد ؟ إذا رغبت في قياس طول قطعة مستقيمة فيمكنك بالتأكيد الاستغناء عن ، أما إن أردت رسم طريق مستقيم على وجه الأرض فهذا يبدو صعبا بسبب استدارة كوكبنا ... ووجود . هل من السهل حساب ؟ يكفي رسم دائرة وقياس محيطها ثم قسمة المحيط على قطر هذه الدائرة. إن العدد الذي تجده هو . لكن ما نجده عمليا هو، في الواقع، قيمة تقريبية لـ إذ أنه من المستحيل أن نحسب بدقة كاملة محيط أية دائرة. ولهذا فنحن نعتبر أن العدد يساوي (بالتقريب) 3.14 ... وإن شئت المزيد من الدقة في الحساب فبإمكانك كتابة أن يساوي :
3.14159 26535 89793 23846 26433 83279 50288 ...
ومن المهم أن نشير الى أن خامس رقم عشري في قيمة هو 9 ، وهو ما يفسر الدقة الكبيرة التي يحصل عليها الفيزيائيون والمهندسون وعلماء الفلك حتى لو أخذوا = 3.14159 أو = 3.1416 ذلك أن وجود الرقم 9 في المرتبة الخامسة "يسحق" الأرقام التي تأتي بعده (ابتداء من المرتبة السادسة) ويجعلها مهملة. وعلى كل حال فإن 39 رقما عشريا للعدد يكفي لحساب محيط دائرة قطرها كقطر الأرض بخطإ لا يتجاوز قطر ذرة هيدروجين ! لِـمَ إذن هذا الاهتمام بالعدد ؟
لقد تزايد فضول الرياضيين بحكم تضارب معلوماتهم فكثرت تساؤلاتهم حول العدد : هل هو عدد كسري (أي هل هو حاصل قسمة عددين طبيعيين) أو هل هو عدد جبري (أي هل هو جذر لكثير حدود معاملاته أعداد صحيحة) ... ثم إن هناك مسألة من كبريات المسائل الرياضية التي طرحها الرياضيون في اليونان منذ أزيد من ألفي سنة : هل يمكن إنشاء مربع بالمدور والمسطرة تكون مساحته تساوي مساحة دائرة؟ تلك هي المسألة الشهيرة المعروفة باسم "تربيع الدائرة" التي ظلت مطروحة أكثر من عشرين قرنا دون أن يتمكن أحد من الإجابة عنها ! ... بل لقد أجاب عنها الكثير، معتقدين أنهم حلوا هذا اللغز، لكن مراجعة أعمالهم من طرف الخبراء والهيئات العلمية كانت تكشف في كل مرة على أخطاء تسقط الحلول المقترحة. ونظرا لكثرة عدد الحلول وكثرة أخطائها فإن أكاديمية العلوم الفرنسية، مثلا، رفضت عام 1755 مراجعة أي حل لمسألة تربيع الدائرة ! ... لأن عدد موظفيها لا يكفي لدراسة ومتابعة هذه الحلول.
وحدثت المفاجأة في آخر القرن التاسع عشر عندما أثبت ليندمان (Lindemann (1852-1939 سنة 1882 أن العدد ليس جبريا. وكان معروفا آنذاك أن إثبات هذه الخاصية يكفي للبرهان على أن تربيع الدائرة مسألة مستحيلة. وهكذا جاءت الإجابة عن إمكانية "تربيع الدائرة" بالنفي وأسدل الستار على هذه المسألة التي ضربت رقما قياسيا في مدة طول طرحها. وبطبيعة الحال فإن العمل المتواصل حول هذه المسألة - حتى وإن لم يقدم الإجابة إلا مؤخرا - قد ساعد على تقدم العلوم الرياضية سيما نظرية الأعداد.
وهناك سبب آخر جعل الرياضيون ينشغلون بالعدد : إن هذا العدد يدخل في الكثير من العلاقات الرياضية، وبالتالي فهو متواجد في الفيزياء وعلم الفلك وعلوم الهندسة وعلم النبات وعلم الاجتماع، الخ ... والواقع أن حضور في كل فروع العلم يرجع إلى الدور الذي تلعبه الدائرة في تعريف الدوال المثلثية (الجيب وجيب التمام والظل وظل التمام). والدوال المثلثية تَحُـلّ في كل مكان يتعلق فيه الأمر بإيجاد علاقات بين الأطوال والزوايا. كما أنها لا تغيب عن الحساب التكاملي. ولعل أبسط مثال يمكن تقديمه حول هذه الظاهرة هو المسألة المعروفة باسم "إبرة بوفون (Buffon (1707-1788 ".
إن هذه التجربة بسيطة جدا ويمكن لكل منا القيام بها. وقد تأكد منها الكثيرون، من بينهم عالم الفلك جوهان رودلف وولف (Wolf (1816-1893 حيث قام برمي الإبرة 5000 مرة فلمست الخطوط 2532 مرة. وبالتالي فحاصل القسمة المشار إليه أعلاه هو . وهي قيمة تقريبية لـ ، لكنها بعيدة عن 3.14 ... وسبب ذلك أن وولف لم يأخذ عرض أشرطته مساويا لنصف طول الإبرة. أما الإنكليزي سميث (Smith (1826-1883 فقد أنجز هذه التجربة سنة 1855 حيث رمى بإبرته 3200 مرة فوجد القيمة التقريبية 3.1553 ، وكذلك فعل الإنكليزي فوكس Fox سنة 1864 الذي اكتفى بـ 1100 رمية ورغم ذلك حصل على نتيجة حسنة فوجد 3.1419. كما أن الإيطالي لازيريني Lazzerini قام سنة 1901 برمي الإبرة 2000 مرة فوجد 3.1446 .
ويمكننا تقديم مثال آخر حول حضور العدد في أماكن غير منتظرة : ما هو الاحتمال ألا يكون للعدد المسحوب من بين الأعداد الطبيعية "قاسم أولي متكرر" (أي عدد أولي مربعه يقسم العدد المسحوب) ؟ الإجابة : هذا الاحتمال هو حاصل قسمة العدد 6 على مربع .
دعنا نتفحص تقريبات العدد اللغز حسب تسلسلها الزمني :
وهذا لا يعني أن بهاسكارا هو الذي اكتشف هذه القيم التقريبية.
- سنة 1429 : الكاشي، فلكي سمرقند، يحسب العدد اللغز بستة عشر رقما عشريا.
- سنة 1579 : الفرنسي فيات (Viete (1540-1603 يحسب بتسع أرقام عشرية صحيحة. كما وجد علاقة تعطي حاصل قسمة 2 على العدد .
- سنة 1585 : أدريان متيوس Metius أعاد اكتشاف القيمة التقريبية التي توصل إليها الصينيون.
- سنة 1593 : الهولندي أدريان رومانوس وجد 15 رقما عشريا صحيحا للعدد اللغز.
- سنة 1610 : الهولندي لودولف فان سونلان (Van Ceunlen (1540-1610 يعثر على 35 رقما عشريا.
- سنة 1630 : غرينبارجي Grienberger يحسن النتيجة السابقة بأربعة أرقام عشرية إضافية.
- سنة 1650 : الأنكليزي جون واليس (Wallis (1616-1703 وجد أن : . ثم حولها اللورد برونكار (Brouncker (1620-1684 الى ما يعرف في الرياضيات بالكسر المستمر.
- سنة 1671 : البريطاني جيمس غريغوري (Gregory (1638-1675 كتب العدد اللغز كمجموع سلسلة على النحو .
- سنة 1699 : أبراهام شارب Sharp يحصل على 71 رقما عشريا صحيحا باستعمال متسلسلة غريغوري.
- سنة 1706 : جون ماشين Machin يتمكن من الحصول على 100 رقم عشري للعدد اللغز باستعمال متسلسلة غريغوري. وفي نفس السنة استعمل الرمز( لأول مرة (فيما يبدو) من قبل الإنكليزي وليم جونس.
- سنة 1719 : الفرنسي دي لانيه (De Lagny (1660-1734 يحصل على 112 رقما عشريا باستخدام متسلسلة غريغوري.
- سنة 1737 : كثر استعمال الرمز عند الرياضيين الإنكليز وتبنّاه، فيما يبدو، الرياضي الشهير أولر.
- سنة 1754 : ألف الفرنسي جون مونتوكلا(Montucla (1725-1799 كتابا حول تاريخ "مسألة تربيع الدائرة".
- سنة 1767 : برهن هنريش لامبار(Lambert (1728-1777 على أن العدد عدد غير ناطق (أي لا يكتب كحاصل قسمة عددين طبيعيين).
- سنة 1794 : الفرنسي لوجندر(Legendre (1752-1833 يثبت أن مربع عدد غير ناطق.
- سنة 1841 : الإنكليزي وليم روذرفورد Rutherford يحصل على 208 أرقام عشرية للعدد اللغز. وقد تبيّن فيما بعد أن 152 رقما من بين هذه الأرقام كانت فعلا صحيحة.
- سنة 1844 : الألماني داز (Dase (1824-1861 المعروف بعبقريته في مجال الحساب الذهني وجد ( بمأتي رقم عشري صحيح باستخدام متسلسلة غريغوري.
- سنة 1853 : روذرفورد يحصل على 400 رقم عشري صحيح.
- سنة 1873 : الإنكليزي وليم شنكس (Shanks (1812-1882 يحسب بـ 707 أرقام عشرية. وقد ظلت هذه النتيجة قياسية خلال مدة طوية.
- سنة 1882 : أثبت ليندمان، كما أسلفنا، أن العدد اللغز ليس جبريا (أي أنه عدد متسام transcendantal).
- سنة 1946 : فارغوسون Ferguson يكتشف خطأ في القيمة التقريبية التي وجدها شنكس إبتداء من المرتبة 528 . وفي السنة الموالية يقدم 710 رقما عشريا صحيحا. كما قدم الأمريكي ورانتش Wrench 808 أرقام عشرية للعدد اللغز. لكن فارغوسون عثر على خطإ لدى ورانتش إبتداء من المرتبة 723. وفي سنة 1948 نشرا معا 808 أرقام عشرية صحيحة.
- سنة 1949: دخل الحاسوب ساحة حساب الأرقام العشرية للعدد حيث استعمله نومان Neumann- لحساب 2037 رقما عشريا لهذا العدد.
- سنة 1957 : فلتون Felton يحاول حساب 10000 رقم عشري. لكنه لم يحصل سوى على 7480 رقما صحيحا.
- سنة 1958 : جونويا Genuya يحصل على 10000 رقم صحيح.
- سنة 1959 : الحصول على 16167 رقما عشريا صحيحا.
- سنة 1961 : الحصول على 100265 رقما عشريا للعدد من قبل ورانتش وشنكس.
- سنة 1965 : الفرنسي غِـيّو Guilloud وآخرين يحصلون على 250000 رقم عشري. وبعد سنتين يحسن غيّو النتيجة فيضاعفها.
- سنة 1974 : غيّو يصل الى ثلاثة ملايين رقم عشري.
- سنة 1986 : هايلي Hailey يصل الى 000 360 29 رقم عشري صحيح.
- سنة 1987 : كانادا Kanada ومعاونوه يصلون الى 000 217 134 رقم عشري للعدد
وتواصل تحديد المزيد من الأرقام العشرية لـ على هذه الوتيرة حتى فاق عام 2000 خمسين مليار رقم. والواضح أن ظهور الحاسوب قد كثف البحث عن الخوارزميات التي تسمح بإيجاد أكبر عدد ممكن من الأرقام العشرية، واشتدّ بذلك تنافس الباحثين في هذا المجال. لماذا الانشغال بأمر تافه كهذا ؟ إنه اختبار لقدرة أجهزة الحاسوب إضافة الى الفضول العلمي. ثم هل أن توزيع الأرقام العشرية للعدد يخضع لقانون معين أو أنه توزيع عشوائي؟ ... لعل التوغل في الحسابات يؤدي الى استنباط بعض القوانين التي تتحكم في هذا اللغز. ومن يدري فقد يكون هذا التوزيع غير عشوائي ابتداء من رتبة معينة